فصل: تفسير الآيات (1- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 40):

{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}
يقول الحق جلّ جلاله للكفرة المكذِّبين: {انطلِقوا} أي: سيروا {إِلى ما كنتم به تُكَذِّبون} من النار المؤبَدة عليكم، {انطلقوا إِلى ظِلًّ}؛ دخان جهنم {ذي ثَلاثٍ شُعَبٍ}، يتشعّب لِعظَمه ثلاث شعب، كما هو شأن الدخال العظيم، تراه يتفرّق ذوائب، وقيل: يخرج لسان من النار يحيط بالكفار كالسرداق، ويتشعّب من دخانها ثلاث شُعب، فتُظلم حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش. قيل: الحكمة في خصوصية الثلاث: أن حجاب النفس عن أنوار القدس ثلاث، الحس والخيال والوهم، وقيل: إنّ المؤدِّي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية، الحالة في الدماغ، والقوة الغضبية التي عن يمين القلب، والقوة الشهوانية البهيمية التي عن يساره، ولذلك قيل: تقف شُعبة فوق الكافر وشُعبة عن يمينه، وشُعبة عن يساره.
ثم وصف ذلك الظل بقوله: {لا ظليلٍ} أي: لا مُظِلّ من حرّ ذلك اليوم أو من حرّ النار، {ولا يُغنِي من اللهب} أي: وغير مغنٍ عن حر اللهب شيئاً لعدم البرودة فيه، وهذا كقوله: {وَظِلٍ مِن يَحْمُومٍ لاَّ بَارٍدٍ َولآ كَرِيمٍ} [الواقعة: 43، 44]، {إِنها ترمي بشَرَرٍ} وهو ما تطاير من النار {كالقَصْرِ} في العِظم، أي: كل شررة كقصر من القصور في العِظم. وقيل: هو الغليظ من الشجر، الواحدة: قَصْرةٌ، كجمْر وجمرة، {كأنه جمالاتٌ} جمع جَمَلَ. وقرأ أهل الكوفة، غير شعبة جِمَالةٌ وهو أيضاً جمع جَمَل، وجمالات جمع الجمع. {صُفرٌ} فإنَّ الشرار لِما فيه من النار يكون أصفر، وقيل: سود؛ لأنَّ سواد الإبل يضرب إلى الصفرة، والأول تشبيه لها في العِظم، وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط. وقيل: الضمير في إنه يعود إلى القصر، فيذهب به إلى تصوير عجيب وتطوير غريب. شبهت الشرارة حين تنقض من النار في العظم بالقصر، ثم شبّه القصر المشبّه به، حين يأخذ في الارتفاع والانبساط بأن ينشق عن أعداد لا نهاية لها بالجمالات المتكاثرة، فيتصوّر فيها حينئذٍ العِظَم أولاً، والانشقاق مع الكثرة والصُفرة والحركة ثانياً، فيبلغ بالتشبيه إلى الذروة العليا. اهـ. من الحاشية.
{ويل يومئذٍ للمكذّبين} بنارٍ هذه صفتها مع شواهد القدرة على ذلك وعلى أكبر منه، {هذا يومُ لا ينطقون}، الإشارة إلى وقت دخولهم النار، أي: هذا يوم لاينطقون فيه بشيءٍ، إمَّا لأنَّ السؤال والجواب والحساب قد انقضت قبل ذلك، ويوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت، فينطقون في وقتٍ دون وقتٍ، فعبّر عن كل وقت بيوم، أو: لا ينطقون بشيءٍ ينفعهم، فإنَّ ذلك كلا نُطق. وقرئ بنصب اليوم، أي: هذا الذي ذكروا وقع يومَ لا ينطقون، {ولا يُؤذَنُ لهم} في الاعتذار {فيعتذِرُون}: عطف على {يُؤذَن} منخرط في سلك النفي، أي: لا يكون لهم إذن ولا اعتذار يتعقب له، وليس الإذن سبباً للأعتذار وإلاّ لنصب.
قال الطيبي عن صاحب الكشف: التقدير: هذا يوم لا ينطقون بمنطق ينفعهم، ولا يعتذرون بعذرٍ يدفع عنهم، ف {يعتذرن} داخل في النفي، ولو حملناه على الظاهر لتَنَاقض؛ لأنه يصير: هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون؛ لأن الاعتذار نُطق أيضاً. اهـ. {ويل يومئذٍ للمكذِّبين} بالبعث وما بعده.
{هذا يومُ الفَصْلِ} بين الحق والباطل، أو: بين المُحق والمُبطل، {جمعناكم} فيه، والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم {والأولينَ} من الأمم، فيقع الفصل بين الخلائق، {فإِن كان لكم كَيْدٌ} هنا كما كان في الدنيا {فكِيدُونِ} فإنَّ جميع مَن كنتم تُقلدون وتقتدُون بهم حاضرون معكم. وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم هناك، {ويل يومئذٍ للمكذِّبين} بهذا، حيث أظهر ألاَّ حِيلة لهم في الخلاص من العذاب.
الإشارة: انطلِقوا إلى ضد ما كنتم به تُكذِّبونن مِن رفع درجات المجتهدين المقربين وسقوط درجة البطالين، فانحطوا إلى نار البُعد والحجاب. وتكذيبهم بذلك هو من حيث لم يعملوا بمقتضاه. انطلقوا إلى ظل الحجاب، ذي ثلاث شُعب، تشعب عليه الحجاب، وانسدل عليه ثلاث مرات، ظِل حجاب الغفلة، وظِل حجاب الهوى، وظِل حجاب حس الكائنات. لا ظليل؛ ليس فيه نسيم القُرب، ولا برد الرضا والتسليم، ولا يُغني من لهب حر القطيعة والبُعد، أو حرّ التدبير والاختيار، إنها ترمي بشررٍ، مَن كان باطنه في نار القطيعة رمَى بشررها على ظاهره، فيظهر منه الغضب والقسوة والغِلظة والفظاظة. قال القشيري: يُشير إلى ما يترتب على هذه الشُعب من الأوصاف البهيمية والسبُعية والشيطانية، وأنَّ كل صفة منها بحسب الغلظة والشدة كالقصور المرتفعة، والبروج المشيّدة، كأنه جمالات عظيمة الهيكل، طويلة الأثر صُفر من شدة قوة النارية في ذلك الشرر، وهي القوة الغضبية. ويل يومئذ للمكذِّبين بهذه التشبيهات اللطيفة والإشعارات الظريفة، المنبئة عن الحقائق والدقائق. اهـ.
هذا يوم لا ينطقون من شدة تحيرهم، وقوة دهشهم، ولا يُؤذن لهم فيعتذرون عن بطالتهم وتقصيرهم وقلة استعدادهم لهذا اليوم. {ويل يومئذ للمكذِّبين} قال القشيري: لأنهم أفسدوا الاستعداد، بالركون إلى الدنيا وشهواتها والميل عن الآخرة ودرجاتها. اهـ. هذا يوم الفصل بين أهل الجد والاجتهاد، وأهل البطالة والفساد، أو بين أهل القرب والوصال، وبين أهل البُعد والانفصال، أو بين أهل الشهود والعيان وأهل الدليل والبرهان، أو: بين المقربين وعامة أهل اليمين، جمعناكم والأولين، فيقع التمييز بين الفريقين من المتقدمين والمتأخرين، فإن كان لكم كيد وحيلة ترتفعون بها إلى درجات المقربين، فكيدونن ولا قُدرة على ذلك، حيث فاتهم ذلك في الدنيا. ويل يومئذ للمكذَّبين بهذا الفصل والتمييز.

.تفسير الآيات (41- 50):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ المتقين} الكفرَ والتكذيب {في ظلالٍ} ممدودة {وعيون} جارية {وفواكهَ مما يشتهون}؛ مما يستلذون من فنون الترفُّه وأنواع التنعُّم. يقال لهم: {كُلوا واشربوا}، فالجملة: حال من الضمير المستقر في الظرف، أي: هم يستقرُّون في ظلالٍ مقولاً لهم: {كلوا واشربوا هنيئاً} لا تباعة عليه ولا عتاب، {بما كنتم تعملون} في الدنيا من الأعمال الصالحة، {إنَّا كذلك} أي: مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنينَ} في عقائدهم وأعمالهم، فأحسِنوا تنالوا مثل هذا أو أعظم. {ويل يومئذ للمكذبين} بهذا، حيث نال المؤمنون هذا الجزاء الجزيل، وبقوا هم في العذاب المخلَّد الوبيل.
ويُقال لهم في الدنيا على وجه التحذير: {كُلوا وتمتعوا} كقوله: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] أو: في الآخرة، أي: الويل ثابت لهم، مقولاً لهم ذلك، تذكيراً لهم بحالهم في الدنيا، بما جَنوا على أنفسهم من إيثارهم المتاع الفاني عن قريب على التمتُّع الخالد، أي: تمتّعوا زمناً {قليلاً} أو متاعاً قليلاً، لأنَّ متاع الدنيا كله قليل، {إِنكم مجرمون} أي: كافرون، أي: إنَّ كلّ مجرم يأكل ويتمتّع أياماً قلائل، ثم يبقى في الهلاك الدائم. {ويل يومئذ للمكذِّبين}، زيادة توبيخ وتقريع، أو: ويل يومئذ للمكذِّبين الذين كذَّبوا.
{وإِذا قيل لهم اركعوا} أي: أطيعوا الله واخشعوا وتواضعوا للّه، بقبول وحيه واتباع رسوله، وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة، {لا يركعون}؛ لا يخشعون ولا يقبلون ذلك، ويُصرون على ماهم عليه من الاستكبار. وقيل: وإذا أُمروا بالصلاة لا يفعلون، إذ رُوي أنها نزلت حين أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثقيفاً بالصلاة، فقالوا: لا ننحني، فإنها خسّة علينا، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» وقيل: هو يوم القيامة، حين يُدْعَوْن إلى السجود فلا يستطيعون.
{ويل يومئذ للمكذِّبين} بأمره ونهيه. وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع. {فبأيِّ حديث بعده} أي: بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين، وأخبار النشأتين، على نمط بديع، ولفظ بليغ مُعجِز، مؤسس على حُجج قاطعة، وأنوار ساطعة، فإذا لم يؤمنوا به {فبأي حديثٍ بعده يؤمنون} أي: إن لم يؤمنوا بالقرآن، مع أنه آية مبصرة، ومعجزة باهرة، من بين الكتب السماوية، فبأي كتاب بعده يؤمنون؟ فينبغي للقارئ أن يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
الإشارة: إنَّ المتقين ما سوى الله في ظلال التقريب، وبرد التسليم، ونسيم الوصال، فما أطيب نسيمهم وما ألذ مشربهم، كما قال الشاعر:
يا نسيمَ القُرب ما أطيبكا ** ذاق طعم الأُنس مَن حَلَّ بكا

أيُّ عيشٍ لأناس قُرِّبوا ** قد سُقوا بالقدس من مشربكا

{وعيون} أي: مناهل الشرب من رحيق الوجدان، وفواكه النظر، مما يشتهون، أي: وقت يشتهون، كُلوا من رزق أرواحكم وأسراركم، وهو الترقي في معاريج العرفان، وأشربوا من رحيق أذواقكم، هنيئاً بما كنتم تعملون أيام مجاهدتكم، إنَّا كذلك نجزي المحسنين المتقين علومَهم وأعمالَهم.
ويل يومئذ للمكذِّبين بطريق هذا المقام الرفيع، يُقال لهم: كُلوا وتمتّعوا وانهمكوا في الشهوات أياماً قلائل، إنكم مجرمون، وسيندم المفرّط إذا حان وقت الحصاد. وإذا قيل لهم: اخضعوا لمَن يُربيكم ويُرقيكم إلى تلك المراتب العلية المتقدمة للمتقين، لا يخضعون، فالويل لهم على تكذيبهم، فبأي حديث وأيّ طريق بعد هذا يؤمنون، وأيّ طريق يسلكون، وبأيّ كتاب يهتدون؟ إن حادوا عن طريق السلوك على أيدي الرجال، فماذا بعد الحق إلاّ الضلال. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.

.سورة النبأ:

.تفسير الآيات (1- 5):

{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {عَمّ يتساءلون}، وأصله: عمّا فحذفت الألف، كما قال في الألفية:
وما في الاسْتِفهامِ إن جُرَّت حُذِفْ ** أَلِفهَا وأَوْلهَا الها إنْ تَقْفِ

وحذفها إمّا للفرق بين الاستفهامية والموصولة، أو للتخفيف، لكثرة الاستعمال، وقرئ بالألف على الأصل، أي: عن شيءٍ يتساءلون. والضمير لأهل مكة، وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم، يسأل بعضُهم بعضاً، ويخوضون فيه إنكاراً واستهزاءً، وليس السؤال عن حقيقته، بل عن وقوعه، الذي هو حال من أحواله، ووصف من أوصافه، فإنَّ ما كما يُسأل بها عن الحقيقة يُسأل بها عن الصفة، فتقول: ما زيد؟ فيقال: عالم أو طبيب.
وقيل: النبأ العظيم هو القرآن، عجب من تساؤلهم واختلافهم وتجادلهم فيه. والاستفهام للتفخيم والتهويل والتعجيب من الجدال فيه، مع وضوح حقه وإعجازه الدالّ على صدق ما جاء به، وأنه من عند الله، فكان ينبغي ألاّ يجادل فيه، ولا يتساءل عنه، بل يقطع به ولا يشك فيه، وقد قال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَؤاْ عَظِيمُ} [ص: 67] الآية. وقال الورتجبي: النبأ العظيم: كلامه القديم عظيم بعظم الله القديم، لا يَنال بركته إلاّ أهل الله وخاصته. اهـ. وقيل: كانوا يسألون المؤمنين، فالتفاعل قد يكون من واحد متعدد، كما في قولك: تراؤوا الهلال. انظر أبا السعود.
وقوله: {عن النبأ العظيم} يتعلق بمحذوف، دلّ عليه ما قبله، فيوقف على {يتساءلون} ثم ليستأنف {عن النبأ...} إلخ، أي: يتساءلون عن الخبر العظيم، وهو البعث وما بعده، أو القرآن، فتكون المناسبة بين السورتين قوله: {فَبِأَيْ حَدِيِث بَعْدَهُ يُؤْمِنُون} [المرسلات: 50] مع قوله: {عن النبأ العظيم}، والأحسن: أنه كل ماجاءت به الشريعة من البعث والتوحيد والجزاء وغير ذلك.
قال ابو السعود: هو بيان لشأن المسؤول عنه، إثر تفخيمه بإبهام أمره، وتوجيه أذهان السامعين نحوه، وتنزيلهم منزلة المستفهمين، لإيراده على طريقة الاستفهام من علاّم الغيوب، للتنبيه على أنه لعدم نظيره خارج عن دائرة علم الخلق، حقيق بأن يُعتنى بمعرفته ويُسأل عنه، كأنه قيل: عن أي شيء يتساءلون، هل أُخبركم به، ثم قيل بطريق الجواب: عن النبأ العظيم، على منهاج قوله تعالى: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ف {عن} متعلقة بما يدل عليه المذكور وحقه أن يُقَدَّر مؤخراً، مسارعة إلى البيان، هذا هو الحقيق بالجزالة التنزيلية، وقد قيل: هي متعلقة بالمذكور، و{عَمَّ} متعلق بمضمر مفسَّر به، وأيّد ذلك بأنه قرئ {عمَّه}، والأظهر: أنه مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف، وقيل: عن الأولى للتعليل، كأنه قيل: لِمَ يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والنبأ: الخبر الذي له شأن وخطر. اهـ.
{الذين هم فيه مختلفون}، فمنهم مَن يقطع بإنكاره، ومنهم مَن يشك، فمنهم مَن يقول: {مَاهِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] ومنهم مَن يقول: {مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ} [الجاثية: 32] ومنهم مَن يُنكر المعادين معاً، كهؤلاء، ومنهم مَن يُنكر المعاد الجسماني كبعض أهل الكتاب. أو: في القرآن، فمنهم مَن يقول: سحر، ومنهم مَن يقول: كهانة، ومنهم مَن يقر بحقيّته، ويُنكره حسداً وتكبُّراً. والضمير في {هم فيه} للتأكيد، وفيه معنى الاختصاص، ولم يكن لقريش اختصاص بالاختلاف، لكن لمّا كان خوضهم فيه أكثر وتعقبهم له أظهر، جعلوا كأنهم مخصوصون به. اهـ. قاله الطيبي. ف {فيه} متعلق ب {مختلفون}، قُدِّم اهتماماً به ورعاية للفواصل، وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات، أي: هم راسخون في الاختلاف، وقيل: المراد بالاختلاف: مخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في إثباته، حيث أنكروه، فيحمل الاختلاف على صدور الفعل من متعدد، لا علَى مخالفة بعضهم لبعض من الجانبين، لأنَّ الكل وإن استحق الردع والوعيد، لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر، إذ لا حقيّة في شيء منهما حتى يستحق مَن يخالفه المؤاخذة، بل لمخالفته له صلى الله عليه وسلم في إثباته. اهـ. انظر أبا السعود.
{كلاَّ}، ردع عن الاختلاف والتساؤل بالمعنى المتقدم، {سيعلمون} عن قريبٍ حقيقة الحال إذا حلّ بهم العذاب والنكال، {ثمَّ كلاَّ سيعلمون}، تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد. والسين للتقريب والتأكيد. و{ثم} للدلالة على أنَّ الوعيد الثاني أبلغ وأشد، وقيل: الأول عند النزع، والثاني عند القيامة، وقيل: الأول للبعث، والثاني للجزاء. وقرئ {ستعلمون} بالخطاب على نهج الالتفات، تشديداً للردع والوعيد، لا على تقدير: قل لهم؛ للإخلال بجزالة النظم الكريم.
الإشارة: إن ظهرت أنوار الطريق، ولاحت أسرار أهل التحقيق، كثر الكلام بين الناس فيها، والتساؤل عنها، فيُقال في شأنهم، عمَّ يتساؤلون عن النبأ العظيم، الذي هو ظهور الحق وشهوده، الذي هم فيه مختلفون، فمنهم مَن يُنكره رأساً، ومنهم مَن يُقره في الجملة، ويقول: هم لقوم أخفياء لا يعرفهم أحد، كلاَّ سيعلمون يوم تحق الحقائق وتبطل الدعاوى، ويندم المفرط، حيث لا ينفع الندم وقد زلّت به القدم.